هناك ضرورة ملحّة لفحص دقيق في مجال الدراسات الإسلامية حول النقاش والتفسيرات المتعلّقة بموقف الإسلام والرسول من الشعر والشعراء وذلك بالرغم من كل الدراسات المتوفرة من قبل الباحثين ونقاد الأدب .
هدف هذه الدراسة هو الكشف عن النقاشات الرئيسيّة وفحصها للوصول الى نتيجة من شأنها أن توضّح بعضا من سوء التفسير والتساؤلات حول هذا الموضوع .
إليك بعض الأمثلة من وجهات النظر المختلفة :
الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ، متخصصة بالدراسات الإسلامية تهاجم الدراسات المعاصرة التي تعتبر أنّ سورة الفاتحة هي سيمفونية. وهي أيضا تهاجم الشاعر، نزار قبّاني خاصّة لأنّهُ صاغ إحدى سور القرآن القصيرة في قصيدة. بنت الشاطئ تقول: إنّ نزار قبّاني فعل هذا لأنّهُ لم يدرك حقيقة كون القرآن يرفض بأن يعتبر شعرا وذلك على عكس الادعاء لأصحاب النظريات الذين يعتبرون النبي محمد شاعرا والقرآن شعرا. وورد في الآية القرآنية 68 من سورة يس :
وما علّمْنَهُ الشّعرَ وما ينبغي لهُ إن هوَ إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبينْ
في الحقيقة إنّ الجدل حول اعتبار القرآن شعرا أم لا هو نقاش قديم وقد بدأ مع استلام الرسول الدعوة منذ بدايتها. وفي سيرة الرسول في سيرة ابن هشام نجد قصّة: ثلاثة رجال من قريش خرجوا ليلا للاختباء والإصغاء للرسول وقت الصلاة دون علمه بوجودهم وعندما سأل ناس من قريش الوليد بن المغيرة عن النبي هل هو ساحر فأجاب إنّه ليس بساحر وعندما سُئل هل هو شاعر فأجاب هو ليس بشاعر: لقد عرفنا الشّعر كلّه فما هو بالشّعر .
وقصّة أخرى ذكرت عن عتبة بن ربيعة عندما قال:سمعتُ قولا والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالشّعر ولا بالسحر ولا بالكهانة .
على كلّ حال في الحديث النبوي نجد قصصا كثيرة تدعم الرأي القائل إنّ محمدا ليس شاعرا. عندما سُئلت عائشة إذا كان النبي قد استعمل أبياتا شعرية في حديثه أجابت: إنّهُ يكره الشّعر بغالبيّته مع أنّهُ أحيانا يلقي أبياتا من الشّعر لبني قيس ولكن عندما يفعل ذلك يغيّر ويبدّل من ترتيب كلماته. وعندما صحّحه أبو بكر قال : يا أخي والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي .
في القرآن ما زلنا نجد آيات كثيرة تتناول الشّعر والشّعراء أهمّها آيات من سورة الشّعراء 224-227 والشّعراء يتبعهم الغاوون. ألم ترَ أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون. وأنّهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون .
وهناك أيضا الآية 68 من سورة يس: وما علّمناه الشّعر وما ينبغي لهُ .
هذه الآية الأخيرة تفيدنا بأنّ القرآن يرفض التلميح بأنّ محمداً شاعرٌ. هذه هي الخلاصة التي توصّلت لها بنت الشاطئ وكثير من الكتاب والنقّاد في العهدين الحديث والقديم. منهم نذكر الدكتور محمد طه درويش في كتابه حسّان بن ثابت وهذا هو رأي عبد الرحمن خليل ابراهيم في كتابه دور الشريعة في معركة الدعوة الإسلاميّة أيّام الرسول وهو يقول : إنّ القرآن يرفض الادعاء بأنّ النبي شاعر أو ساحر وأيضا يدوّن بأنّ طبيعة الرسول لم تكن طبيعة شاعر .
بعض الناس يفسّرون بموجب الآية القائلة : والشّعراء يتبعهم الغاوون...أنّ الإسلام يتنكّر للشعر والشعراء ككل، لكنّ هذا ليس تفسيرا دقيقا وصحيحا للقرآن. إنّ غالبية الدارسين يعتقدون ويقرّون بأنّ هذه الآية قصدت الشّعراء الكافرين فقط ما معناه الشّعراء الذين سخروا من الرسول وأساءوا إليه .
الطبري مثلا في كتابه جامع البيان في تفسير القرآن يشرح أنّ الشياطين تتبع الشّعراء ولكنّه يؤكّد باستثناء الآية 227 التي تستثني الشعراء الصالحين المؤمنين مثل حسان بن ثابت وكعب بن مالك وأمثالهما .
تفسير آخر كتفسير الطبري ورد في كتاب فتح القدير للشوكاني عندما يقول : والشّعراء يتبعهم الغاوون أي الضالّون عن الحق. ويضيف بأنه قيل بأنّ القصد من هذه الآية هو أولئك الذين يروون الشّعر الذي يحوي السخرية والأمور الممنوعة، الشوكاني يفسّر بأنّ الله يحمي الشعراء الصالحين المؤمنين ويقف حازما بجانب الحق والإخلاص .
الرأي نفسه عبّر عنه الأديب والناقد العربي الشهير ابن رشيق في كتابه العمدة يقول بأنّ الآية : والشّعراء يتبعهم الغاوون...تقصد الكافرين الذين تهجّموا على النبي وشككوا فيه وتستثني المؤمنين: فأمّا احتجاجُ منْ لا يفهمْ وجهَ الكلام بقولهِ تعالى، والشّعراء يتبعهم الغاوون فهو غلط وسوء تأوّل. لأنّ المقصود بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله بالهجاء ومسّه بالأذى. فأمّا من سواهم من المؤمنين فغير داخل ٍ في شيء من ذلك .
يجب الانتباه أيضا إلى الرأي الوارد من عرفان شاهد في مقاله مساهمة في الدراسات القرآنيّة حيث يقول إنّ القرآن يستحسن نمطا معيّنا من الشّعر على عكس الذي سخر من النبي. تفسير مماثل هو تفسير أبو الأعلى المودودي في كتابه تفهيم القرآن الذي يلفت النظر للآية بتفسيره بأنّ الغاوون معناها الناس الذين يخطئون .
كل ما ذكر أعلاه يشير بأنّ القرآن يعارض بعض أنواع الشّعر لكن ليس الشّعر بمجمله. القرآن وهكذا الإسلام يعارض شعر الجاهليّة الذي يتضمن الجنس، شرب الخمرة، الكراهية القبليّة، عزّة السلف، الانتقام والنزاعات، باختصار الشّعر الذي لا يتمشّى مع روح الإسلام. لكنّ الإسلام بالنسبة للشّعر الذي يتمشّى مع الدعوة القرآنيّة فيباركه وهذا النبي نفسه شجّع بعض الشعراء وقرّبهم منه .
في الكتب التاريخيّة التي تتناول حياة الرسول نجد قصصا كثيرة حول كيفيّة تشجيع النبي للشعر والشعراء لكن في الوقت نفسه نرى كيف طلب من الشعراء اختصار الشّعر على مواضيع إسلامية .
في إحدى قصص الحديث يقول النبي إنّ الشعر هو حديث مصطنع، ما ناسبَ الحقيقة منه نافعٌ وما لا يناسب الحقيقة فهو غير نافع وقال أيضا أنّ الشّعر كلامٌ من الممكن أن يكون جيّدا أو سيّئا .
وقالت عائشة: الشّعر يحتوي على كلمات حسنة وكلمات سيّئة، خذ ما هو حسن واترك ما هو سيّئ أو رديء .
في الحديث والأدب النقدي هناك تدوين بأنّ محمدا نفسه أحبّ الشّعر وألقاه وذكرَ عن الرسول قوله : إنّ من البيان لسحراً ومن الشّعر ِ لحكماً .
حسب وجهة النظر هذه النبي محمد اختار حسّان بن ثابت ليكون شاعرهُ وألهمهُ ليدافع عن الإسلام من أعدائه ولهذا سمّى أبو عبيدة حسّان شاعر النبي في النبوّة .
وفي حديث عن عائشة اختار النبي حسّان عند مجيئه المدينة، عندما سخر أبناء قريش من النبي ومن الأنصار عندها طلب النبي من حسّان الرد عليهم وعندما عبّر النبي عن تخوفه بأن يصاب بأذى إذا ما سخر حسّان من أبناء عم الرسول قال حسّان: لأسُلنّكَ منهم سلَّ الشّعرةِ من العجينْ .
وفي حديث آخر يروى أنّه عندما سأل النبي: من يستطيع الدفاع عن شرف المسلمين؟ قال كعب بن مالك: أنا سأفعل ذلك. وقال أبن رواحة : أنا أيضا. وحسّان أيضا قال : أنا سأفعل. وهكذا عبّر النبي عن موافقته وقال : سيعينك عليهم روح القدس .
وفي حديث مشابه على ما يبدو قال النبي لحسّان : اهجهم وجبريل معك .
ويذكر حسب عائشة أنّه عندما أتت جماعة من أبناء تميم الى النبي أقام منبرا لحسّان وأجلسه وقال: إنّ الله ليؤيّد حسّان بروح القُدُسْ .
القصّة ذاتها نجدها في كتاب العمدة لابن رشيق الذي أشار بأنّ المنبر بني في المسجد .
في هذه الدراسة علينا أن نؤكّد الحقيقة بأنّ هناك كثيرا من القصائد لعدّة شعراء ممّن امتدحوا الرسول وهناك ردود النبي على هذه القصائد .
إحدى القصائد المشهورة هي لكعب بن زهير الذي أتى محمّدا طالباً دخول الإسلام. ويروي لنا الحديث أنّه عند سماع النبي هذه القصيدة أهداهُ بردة واشتراها من كعب لاحقا معاوية بمبلغ ثلاثين ألف دينار: ومطلع قصيدة البردة :
بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
متيّمٌ إثرها لم يفدَ مكبولُ
نبّئتُ أنّ رسول الله أوعدني
والعفوُ عندَ رسول اللهِ مأمولُ .
قصيدة شهيرة أخرى هي قصيدة حسّان بن ثابت التي هجا فيها أبا سفيان بن الحارث بقوله :
هجوْتَ محمّدا فأجبتُ عنهُ
وعند اللهِ في ذاك الجزاءُ
عندها قال النبي لحسّان : جزاؤك عند الله الجنّة َ يا حسّان .
كل من قرأ ديوان حسّان بن ثابت يرى أنّ شعره هو دفاع عن الإسلام وعن الرسول ولهذا كسب حسّان احترام النبي خاصّة والإسلام عامّةً .
أبو العلاء المعرّي اعتبر حسان واحدا من شعراء الجنّة ولكن في الوقت نفسه لم يتردد في لومه باستعمال بعض التعابير من الجاهليّة في القصيدة الهمزيّة التي يمدح فيها النبي .
بنت الشاطئ تتناول هذا الموضوع في كتابها قيم جديدة للأدب العربي وتقول بالرغم من إرادة حسّان بأن يكون شاعرا مسلما صالحا ما زلنا نجد في شعره الإسلامي بعضا من مظاهر الجاهليّة كشرب الخمر بالرغم من تنكّر الإسلام وشجب الإسلام لهذا النمط من الشّعر .
للإجمال يتّضح بأنّ الرسول محمّد خاصّةً والإسلام عامّة لا يرفض الشّعر بمجمله بل يتنكّر للنمط الشّعري الذي لا يتمشّى أو يناسب روح الإسلام. هذا ما قصده القرآن وهذا ما قصده الرسول نفسُهُ .
بقلم / كمال ابراهيم